المنهج الفكري والعقدي الذي رسمه حسن البنا يختلف اختلافًا بعيدًا عن ما عليه إخوان اليوم ، ويختلف إلى حد التصادم مع النِّحلة الوهابية ، والفقه النجدي المنغلق ... الوهابية والإخوان مشروعان متنقضان تمام التناقض ، فكيف صار الفكران الإخواني والوهابي يموج بعضهما في بعض ؟ لحل هذه المسألة المعقدة تعالوا بنا لنقلب صفحات التاريخ الاخواني ونبدأ من أولى اللقاءات التي جرت بين حسن البنا والملك عبدالعزيز والتي كانت علاقات سياسة ومصالح ، كان الملك عبدالعزيز يبحث عن نفوذ سياسي أكبر في البلاد العربية كلها ، لأنه كان لا يريد لأحد أن ينافسه الزعامة والوجاهة والشهرة وحب الظهور ، وكان نجم الرئيس جمال عبدالناصر ـ آنذاك ـ أكثر بريقًا وألقاً وشعبية وجماهيرية من الملك عبدالعزيز .. وكان عبدالناصر يبغض الحكم الملكي أشد البغض ولا يريد أن يبقى له أثر على طول وعرض الخريطة العربية ، فأراد الملك عبدالعزيز أن يستغل الإخوان ليكونوا له متكأ ومستند يعتمد عليهم في بسط هيمنته ونفوذه وتمدده وانتشاره في العالمين العربي والإسلامي ، عساه أن ينتزع النجومية من عبدالناصر ... أما الشيخ الشاب حسن البنا فكان صاحب فكر ومنهج يعمل على بسطه ونشره وبثه في الناس ، وكان بحاجة إلى قوة سياسية يتكأ عليها لنشر دعوة الإخوان فكرًا وتنظيمًا فوجد ضالته في ملك السعودية ، وكانت مواسم الحج فرصة له للإلتقاء بعلماء وأعلام العالم الإسلامي ، وكان لا يُفوّت أي موسم للإلتقاء بأمراء آل سعود ، وتوالت اللقاءات بينه وبينهم فتعرف الداعية الشاب على أفراد الأسرة المالكة وعرفوه ، وأحبوه ، وقدّموه ، وأعجب الملك بخطابه الآسر ، وتأثيره الباهر ، وذكاءه الوقّاد لكنه لم يوافق على طلبه لفتح فرع لجماعة الإخوان بالمملكة ، غير أن منهج الإخوان انتشر بسرعة البرق في كامل أنحاء السعودية ، التي انتَدَبَت لمعاهدها وجامعاتها ومدارسها المختلفة مئات المدرسين المتأخونين من مصر ... وبقي منهج الإخوان متميزًا عن المنهج الوهابي تمام التمايز على الرغم من تواجده في بيئة وهابية خالصة... وبعد اغتيال حسن البنا في 12 فيفري سنة 1949 ، تولى حسن الهضيبي منصب المرشد العام ، ثم جاء من بعده عمر التلمساني ، وفي عُهدة هذين المرشدين ، هاجر كثير من الإخوان إلى السعودية فرارًا من الإعتقالات والتعذيب والأسر والإعدام وسجون النظام المصري ، وهنالك تَجَنَّسَ بعض الإخوان بالجنسية السعودية ، وحظي بعضهم بجواز السفر الديبلوماسي ، بل إن أحد مشايخ الإخوان وصل إلى منصب سكرتير الملك السعودي وهو الشيخ عبدالرحمن أبو الخير ... إلا أن كثير من الإخوان ، وبعد مجالسة أشياخ الوهابية والاستماع إليهم تأثروا بالفكر الوهابي ، والمنهج الوهابي ، والفقه الوهابي ، والفهم الوهابي ... في هذه المرحلة التاريخية وقع التمازج الغريب بين منهج الإخوان والنِّحلة الوهابية ، وبرز دعاة سعوديون إخوانيون تأثروا بالبيئة الوهابية التي نشئوا فيها والفكر الإخواني الذي تربوا عليه ، وكانوا في كتاباتهم وخطبهم ووعظهم يستدلون بفتاوى بن باز وبن عثيمين وتخريجات الألباني ، وقد تأثر بهم إخوان آخرون ممن لهم باع قصير في علم الرواية والدراية ، وأصبحوا يتدارسون كتب التوحيد التي ألفها محمد بن عبدالوهاب ، ووقع الخلط العجيب بين الفكر الإخواني والوهابي ، أما الراسخون في العلم من مشايخ الإخوان فلم تكن لهم أي صلة بالوهابية ، وبقوا أوفياء لمنهجهم خاصة الشيخ محمد الغزالي الذي كانت له موقف ثابتة من الوهابية لم تتغير ولم تتبدل إلى أن لقي الله ، والشيخ سعيد حوى الذي كان وفيًا لمنهجه الإخواني وسلوكه الصوفي ، والشيخ يوسف القرضاوي كان وفيًا لمنهجه الإخواني ولذلك مُنع كتابه " الحلال والحرام في الإسلام " من الدخول إلى السعودية من قبل هيئة كبار العلماء ، والشيخ المحُدّث عبدالفتاح أبوغدة كذلك بقي وفيًا لسلوكه الصوفي ومنهجه الإخواني وكانت له مناظرة مع الألباني أقحمه وأفحمه و تَبين من خلالها أن الرجل صغير جدا في علم الحديث ، وكذلك مصطفى السباعي بقي وفيًا لسلوكه الصوفي ومنهجه الإخواني ، وعزالدين القسّام أيضا بقي وفيًا لسلوكه الصوفي ومنهجه الإخواني...وكثير من دعاة ومشايخ الإخوان المتصوفون ، أما سيد قطب فقد كان في مؤلفاته يميل ميلاً عظيمًا إلى الفتاوى الوهابية ، بل كان أكثر الوجوه البارزة في ميدان الدعوة التي وقع لها مزج غريب بين الفكر الإخواني والاعتقاد الوهابي ، لكنه لم يسلم من الوهابية وعَضُّوهُ بكلاليب الشتائم ، وكمّاشات النقد الجارح جدا ... أما بقية العلماء الأعلام فقد بقوا شوكة في حلوق الوهابية ، ولا تكاد مؤلفاتهم وكتاباتهم تخلو من نقدٍ حارٍ مُفَلْفَلٍ للمتمسلفة الأدعياء ومنهجهم المختل والمعتل ، وإن لم يذكروهم بالاسم في جميع خطبهم وكتاباتهم ومؤلفاتهم ومنشوراتهم ... وهكذا ظلت السعودية بالنسبة للإخوان مجرد ممول مالي ، فهم منظّمون جداً ، وعلى كفاءة عاليةٍ في العمل الميداني ، ولذلك ظلت المواقع القيادية بأيديهم لم يُسَلّموا زمامها لأي جهة ... ولعل ما أغضب آل سعود من الإخوان أنهم ورغم كل ما يمتلكونه من وسائل الترويض الديني ، والسياسي ، والمالي ، إلا أن حسن البنا ـ رحمه الله ـ ظل مثلهم الأعلى ، فلا بن عثيمين ولا بن باز ولا الألباني .. ولا غيرهم استطاع أن يحل محل حسن البنا ، المثل الأعلى هو حسن البنا ، هذا ما لم يهضمه آل سعود ، أما الداهية الكبرى التي قصمت ظهر العلاقة بين السعودية الوهابية وجماعة الإخوان هي حرب الخليج التي وقف الإخوان منها موقف المعارض الصلب ، والرافض القوي للتدخل الأجنبي رغم الفتاوى الوهابية المؤيدة للإستعانة بالأجنبي لضرب العراق ... ولذلك تحركت الآلة المخابرتية لآل سعود لخلق نسخة جديدة للوهابيين إسمهم " المداخلة " هدفهم الأكبر هو الوقوف ضد كل من يفتي ضد الاستعانة والأجنبي ضد العراق ، وشيطنة الإخوان الذين باتوا في نظر كل وهابي " إخوان الشياطين " ... وبما أن آل سعود هم خدم مطيعون للأمريكان فقد استغلوا التنظيم المحكم والانضباط الكبير لجماعة الإخوان فرموا شبابها في طاحونة الحرب التي دارت رحاها بين الأفغان والروس ، فقُتل منهم مَن قُتل ، وتَعَوَّقَ منهم مَن تَعَوَّقَ في فكره قبل جسده ، وبعد ما انتهت صلاحية الإخوان كما تنتهي صلاحية المواد الغذائية التالفة ، وبعدما اندحر الروس عن أفغانستان ، نفض آل سعود أيديهم منهم وصنّفوا كيانهم جماعة إرهابية ينبغي القضاء عليها ، بل وحرضت مصر والإمارات ليحذوا حذوها وقد فعلوا ، بينما لم تفعل الجزائر والأردن والمغرب ، وهذا المزج الغريب بين المنهج الوهابي والإخواني وقع لكثير من أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة ، ولذلك أراد إخوان الجزائر أن يتميزوا عنهم بحزب حمس ، لكن بعض الحمسيين المتأخرين أصابتهم لوثة النحلة الوهابية ... أما الإخوان الحقيقون الذين لم يتأثروا بالفتاوى الوهابية ولا بمشايخ الوهابية فقد سلمت عواقبهم وجلهم يحملون من الوسطية والاعتدال ما يُعبر عن جوهر الإسلام وروحه السمحة ...
رميلات
