فضيلة العالم العلاّمة الشيخ طاهر الجزائري ، أعماله جليلة ، ومواقفه نبيلة ، أما عن سعة علمه ، ورحابة فكره ، وكبير اطلاعه ، فهو البحر الذي لا ساحل له ... فإلى جانب الفقه والنحو والمنطق والبلاغة وعلم الحديث والتفسير والحساب والفلك والرياضيات ... كان الشيخ طاهر يُحسن الحديث والكتابة بسبع لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والعبرية والسريانية والتركية والحبشية ولهجته الجزائرية الأمازيغية ... وكان يرد على شُبهات المستشرقين وأسئلتهم بألسنتهم ولغاتهم ، وكانت لـه مراسلات مع المستشرقين من جنسيات مختلفة ... وكان للشيخ نصيب في تحرير بعض الصحف والارتقاء بمستواها الإعلامي والصحفي ... الشيخ طاهر الجزائري من طينة الكبار ، كان أحد رواد فكر النهضة والإصلاح الذي نادى به محمد عبده ، و جمال الدين الأفغاني ، وعبدالرحمان الكواكبي .. وكان يدعو إلى ضرورة الإستفادة من منتجات النهضة الأوربية مع الحفاظ على أصالتنا وديننا ومقوماتنا الحضارية ، وكان يحث الناشئة والسباب على تعلم العلوم العصرية ، ومُدارسة تاريخ العرب ، وتراثهم العلمي ، وآداب اللغة العربية ، والتمسك بمحاسن الأخلاق الدينية ، والأخذ بالصالح من التمدن الغربي والتطور المعرفي ... أنشأ الشيخ طاهر المكتبة الظّاهريّة في دمشق ، والمكتبة الخالديّة في القدس ، وأدار حلقة دمشق الكبرى في دار رفيق بيك العظم التي كان يحضرها كبار علماء ذلك العصر، أذكر منهم العلامة جمال الدين القاسمي إمام الشّام ، والشيخ عبد الرزاق البيطار من علماء دمشق الكبار ، والشيخ سليم البخاري وهو عالم أديب ، ورفيق العظم العالم والباحث ، والدكتور عبد الرحمن الشهبندر الطبيب والخطيب المفوه ، والشيخ عبد الرحمن الزهراوي، والقائد العسكري الشيخ سليم الجزائري ، وفارس الخوري، وعبد الوهاب المليحي، و محب الدين الخطيب ، ومحمد كرد علي ... فكانت حلقة علمية ثقافية من أجمل وأحلى ما عرف التاريخ من حلقات ، وكان الشيخ طاهر هو الموجه والمصحح لهم ، وينبههم لما خفي عنهم من أسباب الإصابة ... اشتهر الشيخ طاهر بين الناس بطبعه الجزائري المتميز بعصبية المزاج وكراهية النفاق والمحاباة ... جاهد قلمه ولسانه للإرتقاء بأمته ، ووقف موقف المعارض لحكام الدولة العثمانية ، ووصم السلطان عبدالحميد بالفساده والاستبداد.. وسعى إلى تعميم العلم ودور الكتب ، وأسس المدارس واعتنى بالمخطوطات ، وكان شغوفا بالمطالعة وجمع الكتب النادرة ، ولا يدخل عليه أحد داره إلا ووجده محاط برزم من الكتب المتناثرة هنا وهناك وهو جالس على الأرض ، حتى أنه يكاد يختفي بينها لكثرتها ، وكان لا ينام من الليل إلا ساعة أو أقل لشغفه بالمطالعة ... تولى الشيخ طاهر التعليم في المكتبة الظاهرية فبرز بين أقرانه بذكائه وسعة مداركه وثقافته وفصاحة لسانه وقوة حجته وحضور بديهته ، ثم عُين مفتشيا عاما على المدارس الإبتدائية ، ثم عَيّنه والي الشام مشرفًا عامًا على التعليم في سوريا ، ثم عُين مشرفًا عامًا على دور الكتب ... وخلال هذه المناصب التي تولاها ، كان المهندس الخبير الذي خطط لمناهج التربية والتعليم في سوريا ، فأنتجت مناهجه ومقرراته أجيالا متعلمة تعليمًا رصينًا مكينًا ، زاوج فيه الشيخ طاهر بين تَعَلم العلوم العصرية واللغات الحية دون أن يُفرّط في اللغة العربية كما يُراد لأبنائنا في الجزائر ... وكان الشيخ طاهر قد أقنع والي الشام بضرورة تعليم كل العلوم والمعارف الطبيعية والإنسانية باللغة العربية ، ولذلك تجد الطبيب السوري يحسن الطب ويحسن لغته العربية ، وتجد المهندس السوري يتقن الهندسة بكل فروعها وتخصصاتها ويحسن لغته العربية ... ورغم المناصب التي تولاها ، والمكانة الرفيعة التي بلغها ، والشهرة الكبيرة التي نالها ، إلا أنه كان يرتدي ثياباً باليةً من غير تأنُّق ولا زينة ، ولما أراد أحد أصحابه في القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى أن يغيِّر جبَّته وقد بليت أطرافها ، أجابه: يا فلان! تريد مني اقتناء جبة جديدة ، وأهل الشَّام يموتون من المسغبة ؟! ... أما تلامذة الشيخ طاهر فجلهم من أهل العلم الراسخ أذكر منهم العلاّمة محب الدين الخطيب ، والأستاذ الكبير محمد علي الكرد ، والشيخ محمد سعيد الباني ...وغيرهم من أهل الفضل والعلم ... هاجر الشيخ طاهر إلى القاهرة سنة 1918 ، وظل مقيمًا بها إلى غاية سنة 1918م ، حيث قرر العودة إلى دمشق بعد قيام الدولة العربية ، ولكن المرض أخرّه ، فعاد إلى دمشق سنة 1919م ، بعدما انتهت مضايقات سلطات الحكم العثماني له ، نتيجة معارضته لفسادهم واستبدادهم ، وبعد أربعة أشهر من عودته من القاهرة إلى دمشق ، توفي ـ رحمه الله ـ في 5 يناير سنة 1920م ، ودفن في سفح جبل قاسيون تنفيذاً لوصيته... ألف الشيخ طاهر ثلاثين كتابا ، جلها مطبوع ومتداول ، وبعضها مخطوط لم يرى النور ، وهي :
1. التِّبيان لبعض المباحث المتعلِّقة بالقرآن على طريق الإتقان.
2. توجيه النَّظر إلى أصول الأثر.
3. الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية.
4. العقود اللآلي من الأسانيد العوالي.
5. مبتدأ الخبر من مبادئ علم الأثر.
6. -مُنيَة الأذكياء في قصص الأنبياء.
7. إتمام الأُنس في حدود الفرس.
8. إرشاد الألبَّاء إلى طريق الألف باء.
9. أشهر الأمثال.
10. بديع التَّلخيص وتلخيص البديع.
11. التَّسهيل المجاز إلى فنِّ المعمَّى والألغاز.
12. التَّقريب لأصول التَّعريب.
13. تمهيد العُروض في فنِّ العَروض.
14. حدائق الأفكار في رقائق الأشعار.
15. الحكم المنثورة.
16. رسائل في علم الخط.
17. دائرة في معرفة الأوقات والأيام.
18. الفوائد الجسام في الكلام على الأجسام.
19. مدُّ الرَّاحة لأخذ المساحة.
20. مدخل الطلاب إلى فنِّ الحساب.
21. أسنى المقاصد في علم العقائد.
22. الإلمام بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
23. التفسير الكبير.
24. جلاء الطَّبع في معرفة مقاصد الشرع.
25. الكافي في اللُّغة.
26. فهرست كتب في تفسير القرآن الكريم.
27. رسالة في الإفتاء وشروط المفتي.
28. إثبات تحريف التَّوراة والإنجيل.
29. الرِّحلة إلى طبرية.
30. تواريخ سياحية في بعض البلاد
فضيلة الشيخ طاهر ابن الشيخ صالح بن أحمد الجزائري ، تعود أصوله إلى قبيلة آث وغليس قرب دائرة سيدي عيش ولاية بجاية ... هاجر والده من الجزائر إلى دمشق بعد ما نُفي الأمير عبد القادر إلى فرنسا ، وكانت هجرة الشيخ صالح مع مجموعة من شيوخ الجزائر وعلمائها إلى بلاد الشام ، وعرفت هذه الهجرة بهجرة المشايخ سنة 1847م ... كان الشيخ صالح من علماء الجزائر فهو فقيه اشتهر بعلم الفلك وعلم الميقات، وله رسالة في هذا العلم، وله دراية واسعة بعلوم الطبيعة والرياضيات ، وكان مفتي المالكية في دمشق... تعلّم الشيخ طاهر الجزائري على يد والده مبادئَ علوم الشَّريعة واللُّغة العربية ، ثم تنقل بين المدارس الدمشقية ، فنال من أساتذتها وشيوخها بركات جمة ، وعلوم مهمة ، كالأستاذ الشيخ عبد الرحمن البوسنوي ، والشيخ عبد الرحمن البوشناقي ، والشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني ...ولد الشيخ طاهر الجزائري سنة 1852 وتوفي في 5 يناير سنة 1920م بعد حياة حافلة بالكدح والمشقة والجهاد بالقلم واللسان لتحرير أمته من تخلفها وهوانها وضعفها ... نسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضى والرضوان ، وأن يثقل ميزان حسانته بأعماله الجليلة وبطولاته النبيلة وأن يجعل مقامه مع لنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسن أولئك رفيقًا .
رميلات
